تمتعض البيئة وهي تشاهد حوادث غرق ناقلات النفط في أحشائها المائية مثل حرابٍ مسمومةٍ تنغرس في جسدها أو كمسامير تُدَقّ في نعشها! فوحدها تتسبب في تسرب ما يصل إلى مليوني طن سنوياً من الزيت الخام إلى مياه البحار والمحيطات , ويأتـي ما حدث من تسرب كميات هائلة من النفط على مقربة من الساحل الشمالي الغربي لإسبانيا في 19 نوفمبر 2002 كحلقة مفزعة من حلقات مسلسل التسربات النفطية من الناقلات المتصدعة والغارقة .
انشطرت ناقلة النفط اليونانية "بريستيج" إلى نصفين بسبب عاصفة شديدة غرقت على أثرها في المحيط الأطلسي حاملة 77 ألف طن من زيت الديزل إلى قاع المحيط ,مهددة بأضرار بالغة للحياة البرية والمصائد البحرية بعد تسرب البترول الذي تحمله الناقلة إلى السواحل الإسبانية . وقد تدفقت، وفقاً لوكالات الأنباء، آلاف الأطنان النفطية من الناقلة بعد غرقها مما أدى إلى تلويث أكثر من 100 شاطئ و نفوق نحو 250 طائراً من 18 نوعاً , وإصابة الحياة البحرية في إسبانيا بخطر كبير، إضافة إلى منع الصيد في مساحة تتجاوز 400 كيلو متر من السواحل.
ويـهدد انتشار تسرب زيت الديزل -البالغ حتى الآن أكثر من 20 بقعة ذات لون بني وشكل دائري وكثافة كبيرة يبلغ قطر كل منها ما بين متر وأربعة أمتار - بانقراض مخزون الأسماك والمحار المهم للاقتصاد المحلي في منطقة واسعة قبالة سواحل إسبانيا إذ يعتمد فيها نحو 60% من السكان على الصيد كمصدر رئيسي لرزقهم.
فقد أدى هبوب الرياح والطقس السيئ إلى إفشال جهود السلطات الإسبانية الرامية إلى منع تقدم بقعة الزيت نحو الشواطئ واليابسة بإقليم جاليسيان،و رغم الجهود الضخمة المبذولة لتنظيف الطرق والمنشآت التي غطتها طبقة كثيفة من النفط تتوقع جهات مسئولة أن تستغرق عمليات التنظيف نحو ثلاث سنوات، وأن المنطقة لن تعود إلى ما كانت عليه في السابق قبل مرور عشر سنوات على الأقل!
و الجدول التالي يوضح أهم كوارث غرق الناقلات التي حدثت مؤخراً :
تاريخ الغرق
اسم ناقلة النفط
وزن الحمولة
منطقة الغرق
أبريل 2001
" زينب" العراقية
1300 طن
قرب سواحل إمارة دبي
سبتمبر 2001
"جورجيوس" البنمية
1900 طن
قرب السواحل الكويتية
أكتوبر 2002
" كول" الفرنسية
350 ألف برميل
قرب سواحل اليمن
الناقلات .. ملوِثه
وتعد ناقلات البترول بحوادثـها المتكررة وبممارساتـها الخاطئة كإلقاء النفايات والمخلفات البترولية في المـاء من الملوثات الخطيرة للمياه وللبيئة عموماً. ويرى الباحث الدكتور " محجوب عمر" في دراسة له حول التلوث النفطي للمياه بإشراف "الهيئة العامة للبيئة" في ليبيا , أنه يصعب التحكم في التلوث النفطي البحري أو منع انتشاره حيث إنه خطر عائم ومتحرك يتحكم فيه اتجاه الرياح وعوامل المد والجزر وشدة الأمواج وبذلك تصعب السيطرة عليه.
ويقول الدكتور محجوب: تشكل الملوثات النفطية أخطر ملوثات السواحل والبحار والمحيطات و أوسعها انتشاراً حيث إن 20% من النفط المنتج عالمياً يستخرج من أعماق البحار لذا فأي من الأسباب التالية يؤدي إلى التلوث المائي بالنفط :
ـ الحوادث البحرية والتي من أهمها ارتطام ناقلات النفط بالشعاب المرجانية أو بعضها ببعض أو غرقها .
ـ الحوادث التي تحدث أثناء عمليات الحفر والتنقيب في البحار و المحيطات.
ـ تسرب النفط إلى البحر أثناء عمليات التحميل والتفريغ بالموانئ النفطية.
ـ اشتعال النيران والحرائق بناقلات النفط في عرض البحر.
ـ تسرب النفط الخام بسبب حوادث التآكل في الجسم المعدني للناقلة.
ـ إلقاء مياه غسل الخزانات بالناقلات بعد تفريغها في البحر.
ـ إلقاء ما يعرف بمياه الموازنة الملوثة بالنفط في مياه البحر، حيث يتم ملء الناقلة بعد تفريغ شحنتها من النفط بنسبة لا تقل عن 60% من حجمها للحفاظ على توازن أو اتزان الناقلة أثناء سيرها في عرض البحر خلال رحلة العودة إلى ميناء التصدير.
ـ تسرب البترول من ناقلات النفط بسبب الحوادث من الآبار النفطية البحرية المجاورة للشواطئ.
ـ تسرب النفط إلى البحر أثناء الحروب كما حدث في حرب الخليج الثانية.
التسربات .. سرطان عائم
تهدد التسربات النفطية الكائنات الحية البحرية بصفة عامة في المناطق المتضررة كالأسماك والسلاحف والطيور والشعاب المرجانية وغيرها من أحياء البحار والمحيطات. حيث إنه نظراً لتصاعد وتسامي الكثير من الأبخرة المختلفة من بقعة النفط التي تطفو على سطح الماء، فإن التيارات الهوائية تدفع بهذه الأبخرة بعيداً عن الموضع الذي تلوث بالنفط إلى الأماكن السكنية على الشواطئ والمناطق الساحلية بواسطة الهواء الذي يصبح مشبعاً بها إلى درجة كبيرة وبتركيز عال فوق المقبول مما يؤثر على النظم البيئية البحرية والبرية. كما أن زيت النفط يحتوي على العديد من المواد العضوية التي يعتبر الكثير منها مسمماً للكائنات الحية، ومن أخطر تلك المركبات مركب البنـزوبيرين (Benzopyrene) وهو من الهيدروكربونات المسببة للسرطان ويؤدي إلى موت الكائنات الحية المائية.
ومن جهة أخرى، فلأن كثافة النفط أقل من كثافة الماء فهو يطفو على سطح الماء مكوناً طبقة رقيقة عازلة بين الماء والهواء الجوي، وهذه الطبقة تنتشر فوق مساحة كبيرة من سطح الماء مما يمنع التبادل الغازي بين الهواء والماء فلا يحدث ذوبان للأكسجين في مياه البحر مما يؤثر على التوازن الغازي، كما تمنع الطبقة النفطية وصول الضوء إلى الأحياء المائية فتعيق عمليات التمثيل الضوئي التي تعتبر المصدر الرئيسي للأكسجين والتنقية الذاتية للماء مما يؤدي إلى موت كثير من الكائنات البحرية واختلال في السلسلة الغذائية للكائنات الحية.
أضف إلى ذلك أن النفط المتسرب يتسبب في تلويث الشواطئ الساحلية نتيجة انتقاله لمسافات بعيدة بفعل التيارات البحرية وحركة المد والجزر، كما تتجمع بعض أجزائه على شكل كرات صغيرة سوداء تعيق حركة الزوارق وعمليات الصيد بالشباك وتفسد جمال الشواطئ الرملية وتتلف الأصداف البحرية والشعاب المرجانية مؤثرة على السياحة في تلك المناطق. كما أن المركبات النفطية الأكثر ثباتاً تنتقل عن طريق السلسلة الغذائية وتختزن في أكباد ودهون الحيوانات البحرية، وهذه لها آثار سيئة بعيدة المدى لا تظهر على الجسم البشري إلا بعد عدة سنوات.
وداعاً .. للأسماك والثدييات
وتوضح الدراسات أن الخليج العربي هو أكثر بحار العالم تلوثاً بالنفط، وأن الكائنات الحية في منطقة الجزيرة العربية مهددة، فهناك ما يقارب أربعة أنواع من الثدييات و21 نوعاً من الطيور و40 نوعاً من الزواحف وثلاثة أنواع من الأسماك مهددة بالانقراض تماماً! وقد شهد الخليج العربي عدداً من حالات التسرب النفطي تعد الأكبر والأسوأ على مستوى العالم خلال السنوات السابقة، ويمثل النفط المتسرب من الناقلات 28% من إجمالي النفط المتسرب إلى مياه الخليج العربي والذي يبلغ معدله حوالي 140 ألف برميل سنوياً.
أما بالنسبة للبحر المتوسط الذي تطل عليه كثير من الدول العربية، فيبلغ ما يتسرب سنوياً من النفط إليه ما يقارب 600 ألف مليون طن. وبناء على تقرير حديث صدر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة فإن 4% فقط من المناطق التي تنمو فيها المحاريات (الحيوانات الصدفية المائية) في البحر المتوسط تُنتج في الوقت الحاضر مأكولات بحرية صالحة للإنسان!
وكان التقرير العالمي الثالث لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة قد ذكر في وقت سابق أن كوكب الأرض يقف على مفترق طرق، فربع الثدييات في العالم و12% من الطيور تواجه بالفعل خطر الفناء، وبحار العالم معرضة بالفعل لتهديد حقيقي بسبب التلوث، وثلث المخزون العالمي من الأسماك يصنف الآن باعتباره ناضباً أو معرضا للخطر!