بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اليقين ضد الشك
قال الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..} [والعصر: 3].
يعبِّر الله - سبحانه وتعالى - عن الإيمان في القُرآن دائمًا بصيغة الماضي؛ لذلك لا بدَّ أن تنتهي عمليَّة الإيمان مرَّة واحدة، أمَّا إذا ساورها أو خالَجَها تردُّد أو ارتياب، فإنَّه حينئذٍ يكون حاله كمَن هو مشتغل في بناء مصْنعه ولم يكْمله بعد؛ وذلك لأنَّ أمور الإيمان الأساسيَّة لا بدَّ أن تكون جازمة ثابتة في نفوس المؤمنين، وفي جميع مستوياتهم، سواء كانوا علماء أم جهَّالاً، فالذي يمكن أن يتفاوتوا فيه ما ليس من الدِّين بالضَّرورة، كالمسائل الخفيَّة في الصِّفات الَّتي لا يعلَمُها إلاَّ العلماء المتخصِّصون.
قال تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]، وقال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، بل الشَّكّ هو شأن المنافقين الَّذين في قلوبهم مرضُ الشَّكُّ والارتِياب، فهم لا يتمتَّعون بالنور التَّام يوم القيامة بقدْر ما حَرَموا أنفُسَهم من هذا النور في قلوبهم، وفتنوا أنفُسَهم بما لا حقيقة فيه؛ قال تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} [الحديد: 14]، وقال تعالى: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]، ومعنى هذا: أنَّ المرتاب متردِّد بين شيئين؛ وذلك لأنَّه إنَّما يظنُّ ظنًّا وليْس بمستيقِن في إيمانِه، فيقول في نفسه مثلاً: لعلَّ هذا حقيقة ويحدُث، ثمَّ يُخالجه شكٌّ ووسواس ويقول: لا ليْس هناك شيء، فهو دائمًا في تردُّد ولا يقرُّ له قرار ولا يطمئن؛ كما قال تعالى في آيةٍ أُخرى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45].
بل هذا كان طبيعة كلِّ الأمم المكذِّبة بربِّها؛ كما قال تعالى: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 9، 10].
وقال - تعالى - في شأْن اليهود الذين كذَّبوا الله بارتيابهم في دعْوة يوسف - عليه السلام - وكان هؤلاء اليهود يتعاملون مع يوسف - عليه السَّلام - معاملةَ المنافقين، مادام كانت عنده سلطة؛ {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34].
وكما أسلفْنا، اليقين لا بدَّ أن يستوي فيه النَّاس كلُّهم فيما علم من الدِّين بالضَّرورة، ولكن بالنسبة لما سيحدث من الخوارِق في المستقبل، الَّذي أخبره النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهم فيه يتفاوتون، كما يدل الحديث الَّذي ذكر فيه المصطفى البقرةَ التي تتحدَّث وتقول لصاحبها: ما خُلِقْت للحرْث، وككلام الذِّئْب، فقال بعض الصَّحابة: سبحان الله، بقرة تتكلم! وقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أمَّا أبو بكر وعمر فيؤمنون بهذا))، وهما كانا غائبين، أو كما قال.
أمَّا بالنسبة للخوارق التي وقعتْ في حياته وشاهدَها النَّاس بأعيُنِهم، فلا بدَّ أن يستويَ في يقينِها وإيمانها كلُّ المؤمنين، كحادثة الإسراء والمعراج، وكحادثة انشِقاق القمر، وتفجُّر الماء في أصابعه، وكتبْريكه للطَّعام وغير ذلك.
أمَّا بالنسبة لما وعد الله عباده من النَّصر والظَّفر على الأعداء في أوْقات الامتِحان، فيجوز أن يتفاوت النَّاس فيه في قوَّة اليقين والإيمان بوعد الله، فبعض الناس كأنما هم متحقِّقون بأمِّ أعيُنِهم هذا النَّصر ولو لَم يحدث، وبعض النَّاس يرجون رجاء عظيمًا وهو في غالب الظَّنِّ أنَّه سينتصر، وبعض النَّاس عنده قليلٌ من الرَّجاء، وبعض النَّاس يقع في الارتِياب بين النَّصر والهزيمة مع تشكُّكهم في وعد الله، وهؤلاء هم الذين وقعوا في النِّفاق وخرجوا عن حقيقةِ الإيمان واليقين بالكلِّيَّة، وهُم الَّذين يظنُّون أنَّ الله يُخْلِف وعدَه للمؤمنين، كما أنَّهم وقعوا في الظَّنِّ بالله ظنَّ السوْء، وعدم الثقة بالله، وفقْد التوكُّل والاستعانة بالله، والخوف والرَّجاء من الله وحْده، والله المستعان.
قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح: 6].
وقال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب: 12].
فاليقين يزداد بالعلْم مرَّة، أو برؤْية كرامةٍ أو آيةٍ، أو بثبات أو سكينة، أو طمأْنينة يضعها الله في قلوب مَن يشاء من عباده؛ ولذلك علَّمنا الله أن ندعو بهذا الدُّعاء الَّذي يثبِّت الله به الَّذين آمنوا؛ قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكْثر الحلف بـ: ((لا ومقلِّبِ القلوب))، وكان يدعو: ((اللهم يا مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك))، وفي الحديث: ((إنَّ القلوب بين إصبعَين من أصابع الرَّحمن يقلِّبُها كيف شاء)).
وفي الحديث: ((مثَل القلب كريشة في أرض فلاةٍ تقلِّبُها الريح)).
ولما نزلت في إثر صلح الحديبية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1، 2]، قالت الصَّحابة: وما لنا؟ فنزلت: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً ..} الآية [الفتح: 4].
فهذه هي السَّكينة التي يضعُها الله في قلوب مَن يشاء من عباده.
ومنْه رباط القلوب، كما ربطَ الله على قلوب أصْحاب الكهف لمَّا {قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ..} الآية [الكهف: 14]، وكما ربَط الله على قلب أمِّ موسى؛ لأنَّ الله أراد لها الإيمان والثَّبات؛ قال تعالى: {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]، وكما ثبَّت الله الطَّائفتين اللتَين أرادتا أن يفشَل المؤمنون؛ لأنَّ الله أراد لهما الإيمان والثَّبات؛ قال تعالى: {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [ آل عمران: 122].
وتأمَّل قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآية [البقرة: 260].
إذ كان خليل الله إبراهيم - عليه السلام - يطلب من الله أن يُريه كيف يحيي الموتى، فقال الله له: أولم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي.
فهذه القصَّة تدلُّنا على أنَّ زيادة اليقين بالعلْم أو بمشاهدة المعجزة في عصر النبوَّة، أو بالكرامة أو بالآية في كلِّ العصور لا تضُرُّ، بل ولا تؤثِّر في أصل اليقين والإيمان؛ لهذا قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تعليقًا لهذه القصَّة: ((نحن أحقُّ بالشَّكِّ من إبراهيم))؛ أي: إنَّ إبراهيم لو شكَّ وهو مَن هو في قوَّة الإيمان، نحن كنَّا أحقَّ بالشَّكِّ منْه؛ أي: لم يشكَّ، وكان قوله هذا - بأبي وأمي - لأجل التَّواضُع، والاعتراف بالفضل لإبراهيم - عليه السلام - وتبيينًا وتفقيهًا لهذه المسألة الَّتي نحن بصددِها،، والله أعلم.