بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على خير خلقه، وأمينه على وحيه، محمد بن عبدالله وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، أما بعد
فقد كان من أواخر ما أنزل الله من كتابه قوله جل شأنه ( اليوم أكملت لكم دينكم)، وقد أنزل هذه الآية على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم في أفضل الأيام وأفضل الشهور وأفضل الأماكن ومعه أفضل الخلق
روى البخاري ومسلم عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فقال عمر: والله لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة
وعن ابن عباس قال: أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطه أبدًا
أيها المؤمن الكريم
وهذه أكبر نعم الله ـ عز وجل ـ على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم؛ ولما رضي الإسلام لنفسه وجب عليهم أن يرضوه لأنفسهم
والدّين: ما كلف الله به الأمّة من مجموع العقائد، والأعمال، والشرائع، والسلوك، والأخلاق، والنظم، وقد بينه الله غاية البيان
كما قال تعالى: { ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء } وقال سبحانه ( وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم } ـ( وتأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال إيذانا بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه، بل هو الكامل في حسنه وجلالته ) مفتاح دار السعادة - (ج 1 / ص 302)ـ
وقد دلت هذه الآية على أصول جامعة، بها تعظيم الله جل شأنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحفظ الدين في الأصول والفروع، ونصر الملة، وعز المؤمنين، ومفارقة الكافرين، ومن هذه الأصول
أولا : إن مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنّة، كاف في هدي الأمّة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها
قال ابن القيم: ( أوامر الشرع محيطة بأفعال المكلفين... فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به وجميع ما نهى عنه وجميع ما أحله وجميع ما حرمه وجميع ما عفا عنه وبهذا يكون دينه كاملا، ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص وعن وجه الدلالة وموقعها). (أعلام الموقعين )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( فلم يترك صلى الله عليه و سلم شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ) بيان تلبيس الجهمية
وفي صحيح مسلم: أن بعض المشركين قالوا لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة قال: أجل !ـ
ثانيا: ( إن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه وأكمله به ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشوف .. ولهذا أنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره فقال أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) الصواعق المرسلة - (ج 3 / ص 826)ـ
وبهذا تعلم أيها المؤمن ضلال من قدم العقل على الوحي، ومن قضى على الشرع برأيه، ومن تعبد الله بالرؤى والمكاشفات من الصوفية وغيرهم، وخطأ من نصب خلاف العلماء دليلا شرعيا، وجعل التيسير في أيسرهما على المكلف ظاهرا، ولوكان معارضا للكتاب والسنة
ثالثا: إن كل عبادة لم ترد في الكتاب والسنة فهي بدعة وضلالة، وتشريك في التشريع، واستدراك على الله تعالى، ولسان حال فاعلها أن الدين لم يكمل، والرسول لم يبلغ البلاغ المبين، شاء المبتدع هذا أو أبى، وقد تعالى إنكارا على كل محدث في دين الله ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )ـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلام له جامع
ـ ( ولا يجوز لأحد أن يعدل عما جاء في الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها إلى ما أحدثه بعض الناس مما قد يتضمن خلاف ذلك، أو يوقع الناس في خلاف ذلك، وليس لأحد أن يضع للناس عقيدة ولا عبادة من عنده بل عليه ان يتبع ولا يبتدع ويقتدى ولا يبتدى فإن الله سبحانه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وقال له قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وقال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا والنبي علم المسلمين ما يحتاجون إليه في دينهم، فيأخذ المسلمون جميع دينهم من الاعتقادات والعبادات وغير ذلك من كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وليس ذلك مخالفا للعقل الصريح فان ما خالف العقل الصريح فهو باطل وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس أو يفهمون منها معنى باطلا فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة فان لله تعالى قال وأنزلنا إليك الكتاب تبيانا لكل شيء و هدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 490)ـ
رابعا: إن ن جميع الشرائع السابقة منسوخة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز لأحد أن يتعبد الله إلا بالإسلام؛ لأن الله رضي الإسلام دينا للخلائق إلى يوم القيامة، وجعل القرآن مهيمنا على ما سبقه من الكتب، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس جميعا إلى الإسلام، وأن يقاتل عليه من أبى سواءً أكان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو وثنيا، وأوجب على جميع الناس الإيمان به، وحقت كلمته على أن من لم يؤمن به فهو من أهل النار
ونصوص الكتاب والسنة على هذا متظافرة متظاهرة، والعلماء مجمعون على ذلك، حتى نبتت نابت سوء تزعم أن الأديان السماوية مقبولة عند الله، وجوز التعبد بها بعد بعثته عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز إطلاق الكفر على أهل الملة اليهودية والنصرانية، فكبرت لم تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، فما هذا إلا رد على الله، وتكذيب لرسوله، بل لرسله الذين بشروا ببعثته وأخذا الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسله لو بعث فيهم ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) بل كل من لم يكن مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر إلى النار، وبئس القرار ومن شك في كفره فهو مثله
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
رئيس الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها
دمتم برعاية الرحمن وحفظه