أنبأنا المولى عز وجل قائلاً: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} «الأحزاب 21»، وأمرنا الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» (صححه الألباني) وإنا لنجد في الكتاب الكريم والسيرة العطرة فيضا من المواقف والأفعال، ومن الشمائل والصفات تغطي كل جوانب حياة الحبيب المصطفى وشخصيته، بكل تفاصيلها اليومية، سواء ما اختصه الله به وحده فليس لأحد من أتباعه، أو ما هو عام لكن رفعه المولى فيه إلى مرتبة من الكمال مايزال المؤمنون يتطلعون إليها ويتوقون إلى أن يبلغوا شيئاً من ذروتها.. ! وكلٌ وما وهب الله الكريم!
وقد اقتضت حكمة المولى ان ينزل الكتاب على رسول من البشر، يكون في واقعه العملي الصورة الكاملة لما جاء في ذلك الكتاب، أو كما وصفته عائشة رضي الله عنها «كان خلقه القرآن!» (صححه الألباني في الأدب المفرد) ذلك لأن الكتاب المجمل وحده على جلاله لا يكفي لأن يبلغ الخلق الغاية من تعاليم السماء، مالم تنتصب أمامهم الأسوة الحسنة التي تقنعهم أن ما يُدعون إليه ممكن التطبيق وإن بدرجة أقل من التي بلغتها «الأسوة» أو النموذج.. ! لابد إذا من القدوة العملية التي تريهم ما يجب عليهم أن يكون عليهم واقع حياتهم، ولابد من المثال الواقعي الذي يبرهن على أن ما يطلب منهم ممكن التطبيق .. هكذا اقتضت حكمة المولى: قرآن مجيد، ترافقه سيرة عملية واضحة مفصلة دقيقة، يؤديها بشر مثلهم يرونه أمامهم، وحتى ينتصب النموذج المطلوب السعي إليه شاخصاً لكل من يريد أن يريد، حتى يتم ذلك أفاضت الآيات في وصف الحبيب المصطفى مثلما وصفته لنا كتب السيرة وصفاً كان التفصيل فيه مقصوداً لذاته، لأن الصورة المطلوب استواؤها في النهاية على غاية من الخطورة، فأي نقص أو اختزال أو غموض سيشق على الأتباع معه أمر الاقتداء، وسيبعد الهدف الذي من أجله أنشئت الصورة ابتداء.
رسولنا في القرآن
إن القرآن هو كلام الله المقدس الذي يمنح الأشياء قيمها الحقة وهو كتاب هذه الأمة منذ تنزل إلى قيام الساعة وامتداده على تلك المساحة الزمنية، فوق وصوله الى الملايين عبر ذلك الزمان المتطاول، كل هذا أعطى لمحتواه ومنها صورة الحبيب مكانة وأهمية، بل قداسة، ليست لأحد من البشر.. ولنستمع إلى هذه المقتطفات من الذكر الحكيم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم} «التوبة 128».
{قل إنما أنا بشر مثلكم، يوحى إلي} «الكهف 110».
{قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم إني ملك... } «الأنعام 50».
{وقالو ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا} «الفرقان7».
{ولقد أرسلنارسلا من قبلك، وجعلنا لهم أزواجا وذرية} «الرعد38» {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشدا، قل إني لن يجبرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملتحدا}«الجن: 21 22».
وأول ما يلفتنا في هذا التقرير الرباني تأكيده على بشرية الرسول الأمين، جاء ذلك مرة بلسانه هو عليه الصلاة والسلام {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} وجاء تقريرا من المولى العليم في مواضع غيرها، ولهذا التأكيد المتكرر أهداف بعيدة وجليلة مقصودة في ذاتها:
فأولى هذه الأهداف: ترسيخ الفكرة في عقول الأتباع ونفوسهم حتى لا يلتبس في تصورهم أويتميع الفارق بين مقام الألوهية ومقام النبوة، وحتى لا ينقلب حبهم لنبيهم وتعظيمهم له إلى رفعة أعلى من المقام الذي وضعه ربه فيه! وما دأب {.. الذين قالوا إنا نصارى.. } منا ببعيد «المائدة14».
وثانيها: كي يدرك الأتباع أن «بشرية» رسولهم مقصودة من العلي القدير ليخلق لهم نموذجا، كاملا نعم، لكنه مثلهم، قريب منهم، يسهل اقتفاء أثره والاقتداء به.. لأن أي نموذج غير بشري سيكون عصياً على مداركهم، بعيدا عن نفوسهم، تحجزهم المسافة الخارقة بينهم وبينه أن يتصورا بله أن يحاولوا أن يكون لهم «أسوة»، وهذا ماسيكون مدعاة للتشكي: {لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} «طه134».
كما يكون مدعاة للانصراف عنه باعتباره مثلا خارقا صعباً لا يمكن اللحاق به!، ومن هنا تأكيد القرآن الكريم على هذه النقطة ورفضه القاطع أن يرافق الرسول ملك، كما طلبوا مراراً، وبيانه،: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولاً} «الاسراء 95».
وعليه نرى أن ربنا قد أكرمنا برسول بشر، مثلنا، وهو في هذا كما قال عن نفسه الشريفة: «أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج السناء» (متفق عليه) وفوق هذا فهو يخصف نعله، ويرتق ثوبه، ويكون في حاجة أهله!.
وثالثها: انتفاء الحاجة، لأن رسولنا بعد ليس بحاجة إلى سند ملائكي، ولا إلى تنشئة لا هوتيه ناسوتية، ولا إلى تهويلات، وطقوس تصوره فوق باقي البشر، ولا إلى صولجان أو حاشية وحجاب تشعر من يلقاه أنه أمام شخصية مختلفة، ولا إلى دعايات تضيف إليه ما يجود به خيال المحبين أو المتملقين من الصفات الأسطورية، أو الخارقة، لا، لا، بل إنه هو نفسه يبلغ أتباعه، معتبراً تبليغه هذا جزءا من الرسالة، {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم إني ملك .. } «الأنعام 50» وهو بالتالي: يأكل مما تأكلون منه، ويشرب مما تشربون، وإذا جمعته وأتباعه نزهة فسرعان ما يقول: وعليّ جمع الحطب .. بل إن غريبا ليدخل المسجد ثم تراه يسأل الصحابة الكرام، أيكم محمد؟! لم يكن الرسول بحاجة إلى شيء من هذا لتطاع كلمته، ولتنفذ تعاليمه، لأن ديننا لا يقود الناس بالعصا، ولا بالتهويل أو التخويف، ولأن منهج الرسالة وحده، وصفات الرسول الذي جاء يبلغها وحدها كفيلان بأن يقنعا القلوب والعقول معا، وكفيلان بأن يجمعا حوله المقتدين والأتباع، وكفيلان بأن ينشئا له في النفوس قيمة وهيبة ووازعاً وعلى امتداد مئات السنين.. ! وعند الله بعد من أساليب الهداية ما يوفر لرسوله من الأتباع، الملايين وإلى قيام الساعة؟.
والمدهش حقا أن يأتي هذا التأكيد على بشريته (صلى الله عليه وسلم) من صاحب الرسالة نفسه، بل يبلغ فيه من الإصرار ما يماثل إصراره (صلى الله عليه وسلم) على تبليغ باقي محتويات الرسالة..
وما أجمل أن نتذكر هنا حالة ذلك المسكين الذي أصابته رعدة من هيبة الحبيب المصطفى فما كان منه إلا أن قال: هوّن عليك! فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة!
إن الله قد بعث محمداً هادياً
ولأن الهداية هي مهمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحياة، ولأن هذه هي طبيعة رسالته فقد أوضح له التنزيل في فصل حازم: {ليس لك من الأمر شيء... } «آل عمران128}، وقام هو عليه الصلاة والسلام بتبليغ ذلك لنا بنفسه فطبيعة الرسالة لا تتطلب تلك المواصفات التي يتقمصها الكثيرون، وطبيعة المهمة لا تحتاج إلى الرجل الخارق، أو الرجل الحديدي الأسطوري، فهو لن يقسر أحداً على الالتزام بخلق أو عبادة، أو حسب التعبير القرآني: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}«يونس99»، وهو لن يفرض أحكامه بقوة القانون، بل يكفيه أن يربي بالقرآن وبالقدوة الصادقة ضمير الأتباع حتى أولئك الذين لم يصحبوه، وهو لن يطلب لنفسه مالا ولاجاها تلزم معه الشدة والصلابة، بل يكفيه ما تكفل به المولى القدير حين قال: {ورفعنا لك ذكرك} «الشرح 4»، فمادامت هذه هي طبيعة الرسالة ومهمة الرسول فما الحاجة لكل تلك الشكليات المزوقة، ولماذا لا يردد رسولنا بعدها: {قل لا أملك لنفسي ضرا ولانفاً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير، وما مسني السوء...} «الأعراف 188».
مقامات ثلاثة
ومن التأكيد على بشرية الرسول (صلى الله عليه وسلم) يبرز لنا الفارق بين مقامات ثلاثة: مقام الألوهية مقام النبوة مقام العباد، ومثلما فصلنا في بشرية الرسول (صلى الله عليه وسلم) والفارق بينها وبين مقام الألوهية، فلا يجوز كذلك أن ننسى الفارق البعيد بين مقام النبوة ومقام كل من دونه من البشر مهما بلغت منزلتهم أو كان لهم دور بارز أو بصمات في الحياة الإنسانية.. لأن أقواما هداهم الله غرتهم هذه الصفة بشرية الرسول فقالو: حسنا، إنه بشر، وما عدا التنزيل، فإن له أن يقول ويسمع له، وإن لنا نحن أيضا أن نقول، ويجب أن يسمع لنا! بل إن أقواما من زمن الانحطاط ليستشهدون بأقوال زعمائهم، وهم بشر مثلهم، بالتوازي أو قبل ذلك أحياناً.. مع استشهادهم بأقوال النبي الكريم وهي وحي!. فنقول لهؤلاء وأولئك: لا، مكانكم .. لقد اختلطت عليكم الأمور وتداخلت المراتب، وشتان شتان بين مقام النبوة، رغم بشريتها، وبين مقام أحد من البشر!.
صفات الحبيب المصطفى مثلها مثل صفات باقي البشر إلا أنها مختومة بختم الكمال أو كما قال المولى الكريم: {وإنك لعلى خلق عظيم} «القلم4»، وكما قال هو عن نفسه: سيد ولد آدم ولا فخر (حسنه الألباني) كمال في مستواها، مع كمال في شموليتها لكل جوانب الشخصية الإنسانية، في توازن عجيب لا يقدر عليه إلا الذي خلق وقدر.. ! أما كلامه صلوات الله عليهفهو وحي يوحى.. ومن هاتين الخصوصيتين: الكمال، والوحي يتحدد الفارق الهائل بين ما يقوله أو يفعله الحبيب (صلى الله عليه وسلم) أو ما يقوله أو يفعله أحد من الخلق، ومن هاتين الخصوصيتين انبثق مقام النبوة وسطاً وسيطاً بين مقام الألوهية ومقام باقي البشر، هذا المقام الذي نبه القرآن الكريم المؤمنين إليه، كي لا يجرهم قرب النبي منهم إلى أن يتهانوا في الأدب معه: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً... } «النور 63»، كما أنحى باللائمة على قوم ووصفهم بأنهم لا يعقلون، فقال: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} «الحجرات 4».