وعَلّم آدم الأسماء
لمّا كان الأمر يتعلق بأهليّة الخلافة على الأرض، جاءت القدرة على تعلّم الأسماء والنطق بها لتحسم المسألة لصالح المخلوق الذي يملك هذه القدرة. وهذا يعني أنّ القدرة اللّغوية هي الركن الأساس في مسألة الخلافة، وبناء الحضارات. ومعلوم أنّ هذه القدرة لها أساس مادّي، يتمثل بالحنجرة واللسان وما يرافقهما. ولها أساس عقلي، ينمو بنمو الإنسان. ولا يزال الأساس العقليّ سراً من الأسرار، مما يجعلهُ محل جدل بين العلماء المختصّين.
البداية تكون بتعليم الأسماء، ويكون ذلك عن طريق الربط بين الصوت والصورة الحسيّة؛ فإذا أردنا أن نُعلّم الطفل كلمة كأس، مثلاً، أحضرنا له كأساً، ثم كررنا على مسمعه كلمة كأس ونحن نشير إلى الكأس. هنا يقوم الطفلُ بالربط بين الصوت والصورة الحسيّة. فإذا تمّ التّعلم تكوّن لدى الطفل القدرة على لفظ كلمة كأس، وذلك عندما يُحسّ أو يتخيّل الكأس. وتكون لديه القدرة على تخيّل الكأس عندما يسمع لفظة كأس؛ فالصورة الحسيّة تستدعي اللفظة، واللفظة تستدعي الصورة،.. وهكذا.
أمّا تعلّم الحرف والفعل فهو أكثر تعقيداً، فالحرف (في)، مثلاً، يستلزم عناصر عدّة؛ فإذا أردتَ أن تعلّم الطفل أنّ الماء في الكأس فإنّك تحتاج كأساً، ثمّ تُحضر ماءً، وتسكب هذا الماء في الكأس، ثم تقول للطفل: الماء في الكأس. وكذلك الأمر في الأفعال؛ فلكي يتعلم الطفل معنى كلمة (ضرب) لا بدّ أن يكون هناك ضارب ومضروب وأداة ضرب وفعل ضرب، كمقدمات ضروريّة لتفهيم الطفل معنى كلمة ضرب.
جاء في الآيات (31، 32، 33) من سورة البقرة:" وعلّم آدم الأسماءَ كلها ثم عرضَهُم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علمَ لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليمُ الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيبَ السماواتِ والأرض، وأعلم ما تُبدون وما كنتم تَكتمون" .
إذا أخذنا بظاهر النص القرآنيّ الكريم يمكن أن نقول إنّ الأسماء، في هذه الحادثة الجليلة، كانت لمُسمّيات عاقلة، وذلك لقوله تعالى في حق هذه المسمّيات:" عرضهُم.. هؤلاء.. بأسمائهم". وهذا قد يفسر لنا المقصود بقوله تعالى:"وعلّم آدم الأسماءَ كلّها"، أي أنّ آدم، عليه السلام، قد تعلّم كلّ أسماء المسميات العاقلة التي ستكون محل امتحان لآدم وللملائكة، عليهم السلام. وقد استطاع آدم، عليه السلام، أن يخبر بجميع أسماء الكائنات العاقلة التي عُرضت في الامتحان، أي أنّه أنجز 100% .
وهنا قد يثور سؤال: ولكنّ الله تعالى هو الذي علَّم آدم، عليه السلام، فأين الفضل لآدم في ذلك؟!
نقول: المقصود هنا قابليّة التعلّم والأداء، أي الاستعداد الفطري؛ جسديّاً، وعقليّاً، ونفسيّاً. ويبدو أنّ ذلك لا يتوفر للملائكة في أصل فطرتهم: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا".
نعم، هذا هو الأساس المطلوب للخلافة على الأرض، وهذا هو الاستعداد الفطري الأولي الذي لا بدّ منه، ثم يقوم الإنسان بالإبداع؛ فيفرّع، ويولّد، ويستنبط،... بحيث تبقى اللغة لديه مواكبة لتطوره وحاجاته.
لقد أدرك الإنسان أهمية اللغة، إلى درجة أن نجد بعض الفلسفات المعاصرة تبالغ في القول بأهمية اللغة، فتزعم أن لا تفكير من دون لغة. ويبدو أننا
بحاجة إلى دراسات أوفى تعطي اللغة مكانتها في البناء الحضاري الإنساني.