بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. اما بعد...
أجواء الفرحة تسود المكان، وتظلِّل على الأسرة كلها؛ ابتهاجًا بقدوم المولود الجديد "أنس" فالكل فرحان .. الأب والأم والجد والجدة وباقي أفراد العائلة، ماعدا واحدًا!
إنه "أحمد" – ثلاث سنوات- الشقيق الأكبر للمولود الجديد، فعلى الرغم من شغفه بالمولود الجديد إلا أمارات الغيظ والشعور بالضيق تبدو عليه بوضوح، و يكثر من الصراخ والبكاء أو يمتنع عن الطعام، وأفعال أخرى فسّرها أصحاب الخبرة بأنها غيرة من أخيه الجديد، وكأن لسان حاله يقول:
هذا المولود الجديد..احتل مكاني في أحضان أمي، وشغل أبي عن مداعبتي، وأخذ مكاني "آخر العنقود المدلل" في الأسرة، لقد سلبني كل امتيازاتي..
فما هو دور الوالدين في مثل هذا الموقف الذي تتجلى فيه ظاهرة الغيرة في أول وأقوى صورها في عالم الصغار؟
عزيزي المربي..
إنّ الطفل، سواء كان ترتيبه المولود الأول أم المولود الثامن بطبيعته يريد أن يستحوذ على كل شيء، إنّ الأطفال يريدون كل العطف، وكل اللعب، وكل الامتيازات، وكل الاهتمام، فإذا رأى الطفل أن بعض الاهتمام والامتياز انصرف إلى غيره من اخوته غار وغضب..!
والغيرة هي:
(حالة انفعالية داخل الفرد، وفي عالم الأطفال تمثل شعور مؤلم يصاحبه قلق وتوتر، ينشأ عادة نتيجة فشل الطفل في الحصول على أمر مرغوب، كحب شخص أو الوصول إلى مركز أو قوة أو مال، في حين ينجح طفل آخر في الحصول عليه).
وهناك فرق بين الغيرة والحسد:
ومع أن هاتين الكلمتين تستخدمان غالبا بصورة متبادلة، لكنهما لا تعنيان الشيءنفسه، فالحسد هو شعور يميل نسبياً إلى التطلع إلى الخارج، يتمنى فيه المرء أن يمتلك ما يملكه غيره، فقد يحسد الطفل صديقه على دراجته، أو طعامه أو ملابسه التي تحكي مستوىً مادياً مرتفعاً عن مستواه، ومن ثم يتطلع للحصول على مثل هذه الأشياء.
شيوعها بين الأطفال:
هي من أكثر الظواهر الانفعالية شيوعاً في مرحلة الطفولة، وقد لا يعترف الطفل بها غالباً إلا أن مظاهرها وعلاماتها تبدو عليه بجلاء.
ومن أكثر مواقف الغيرة قوةً وشيوعاً بين الأطفال عندما يولد للطفل أخ أو أخت جديد، وكذلك توجد في المراحل العُمْريّة المتقدمة لدى الطفل، ويكون الشعور بالغيرة في هذه المرحلة ناجماً عن مواقف الإخفاق والفشل أو الشعور بالنقص في قدراته، أو بسبب المعاملة الغير عادلة من الوالدين في صورة تفضيل أحد اخوته عليه.
وتتخذ الغيرة أكثر من شكل، أبرزها الغيرة من المولود الجديد، والغيرة من الأقران المتشابهين، ثمّ الغيرة من الجنس الآخر.
مظاهرها وآثارها على الطفل:
قد تؤدي الغيرة إلى ضعف ثقة الطفل بنفسه، وتتحول إلى عادة سيئة وسلوك خاطيء قد يلازمه عندما يكبر إن لم تتناوله الأسرة بالعلاج والتهذيب، ويكون التعبير عنها واضحاً في تصرفاته الغير لائقة مع أقرانه، مثل نزوعه للعدوان والتخريب والغضب.
وتمثل "الغيـرة المرضية" عاملاً مشتركاً في الكثير من المشاكلالنفسية عند الأطفال، وقد تشتد فتكون مدمرة للطفل، أو تكون سبباً في إحباطه وتعرضه للكثير من المشاكل النفسية، مثل عدم قدرته على التوافق الشخصي والاجتماعي، الذي يظهر بصور مختلفة منها التبول اللاإرادي أو مص الأصابع أو قضم الأظافر، أو الرغبة في شد انتباه الآخرين، وجلب عطفهم بشتى الطرق، أو التظاهر بالمرض، أو الخوف والقلق، أو بمظاهر العدوان السافر.
وقد يصحب الغيرة كثير من مظاهر الثورة أو التشهير أو المضايقة أو التخريب أو العناد والعصيان، وقد يصاحبها مظاهر تشبه تلك التي تصحب انفعال الغضب في حالة كبته، كاللامبالاة أو الشعور بالخجل، أو شدةالحساسية أو الإحساس بالعجز، أو فقد الشهية، أو فقد الرغبة في الكلام.
وفي الغيرة قدرٌ من الخير:
تظل الغيرة أحد المشاعر الطبيعية الموجودة عند الإنسان كالحب مثلاً، وهي شعور مفيد محفّز يدفع الطفل للتقدم الإيجابي ما لم يخرج عن حدود المعقول وينقلب إلى الغيرة المرضية، وما دامت الغيرة في حدود هذا الإطار فعلى الأسرة أن تتقبلها كحقيقة واقعة ولا تسمح في الوقت نفسه بنموها وتزايدها؛ فالقليل من الغيرة يفيد الطفل، ويدفعه للترقي من خلال محاكاة أقرانه في جوانب إيجابية من سلوكهم، ولكن الكثير منها يفسد عليه نفسه وحياته، ويصيب شخصيته بضرر بالغ، وما السلوك العدائي والأنانية والارتباك والانزواء إلا أثرًا من آثار الغيرة على سلوك الأطفال .
وكيف أعالج ولدي من الغيرة؟
للوالدين دور هام في التخفيف من حدة التوتر الذي تثيره مشاعر الغيرة الشديدة بين الأولاد، ويعتبر نجاحهما في تدريب الأبناء على العيش في جوّ من الوئام والتآلف مؤشراً جيداً لإمكانية نجاح هؤلاء الأولاد في العيش مع غيرهم من أفراد المجتمع مستقبلاً عندما يشبون ويخرجون للحياة العامة، فالأسرة مجتمع صغير يتدرب فيه الأبناء على أنماط مختلفة من السلوك، والممارسات، والعلاقات بين الأفراد. وللوقاية والعلاج من الغيرة المذمومة ينصح بـ :
- التعرف على الأسباب وعلاجها، فإذا وقفت – عزيزي المربي أثناء قراءتك على أحد أسباب هذه الظاهرة التي يعاني منها ولدك؛ فبادر إلى علاجها.
- أشعر ولدك بقيمته ومكانته في الأسرةوالمدرسة وبين الزملاء، وتفهم الفروق التي بينه وبين اخوته.
- علّم أبناءك أنّ الحياة أخذ وعطاء وأن الله تعالى يمنح كل عبد من عباده نعم ومميزات خاصة به، ودرّبهم على التفكر فيما لديهم من النعم وعلى استشعار الحمد والشكر لله تعالى عليها.
- إذا كان أبناؤك في مرحلة متقدمة من طفولتهم، فانقلهم من الغيرة المذمومة إلى التنافس في الخيرات، قال تعالى:
{ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }
[المطففين: 26]
والغبطة المحمودةالتي تدعو المرء أن يقلد غيره في صنائع المعروف وسبل الخير كلها التي يتقرب فيها إلى الله تعالى، ومما يثبت هذه المعاني في نفوس الأبناء تلقينهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا على الاثنين رجل آتاة الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)
[ أخرجة البخاري ].
- أشبع أبنائك بمشاعر الثقةفي أنفسهم، وبصّرهم بما منحهم الله تعالى من قدرات ومواهب، فإن ذلك يخفف من الشعور بالنقص أو العجز الذي يؤجج مشاعر الغيرة في نفوسهم.
- اجعل تعاملك مع أبنائك قائماً على أساس المساواة والعدل، دون تمييز أو تفضيل ابن على آخر، مهما كانجنسه أو سنه أو قدراته، فلا تحيز ولا امتيازات بل معاملة عادلة لجميع الأبناء.
- ابتعد عن المقارنة الصريحة بين الأبناء، فكل طفل له شخصية مستقلة لها استعداداتها ومزاياها الخاصة بها.
- المساواة في المعاملة بين البنين والبنات، لأن التفرقة في المعاملة تؤدى إلى شعور الأولاد بالغرور والاستعلاء مما يثير مشاعر الغيرة عند البنات.
- تشجيع الأبناء على تنمية مواهبهم وهواياتهم المختلفة، مثلجمع الطوابع والقراءة وألعاب الكمبيوتر وغير ذلك.. وبذلك يتفوق كل ٌمنهمفي ناحية، وتبرز الفروق الفردية بينهم، ويصبح تقييمه وتقديره بلا مقارنة مع الآخرين.
- تعويد الطفل على السعي للتفوق، وتقبل الهزيمة، بحيث يعملعلى تحقيق النجاح ببذل الجهد المناسب، دون أن يغار من تفوق الآخرين عليه، بالصورةالتي تدفعه لفقد الثقة بنفسه.
- عدم إغداق امتيازات كثيرة على الطفل المريض، لأن هذا يثير الغيرة بين الأخوة الأصحاء، وتبدو مظاهرها في كراهية الطفل المريض وغيرها من مظاهر الغيرة الظاهرة أو المستترة .
- في حالة انتظار الأسرة لمولود جديد، فلابد من تهيئة الطفل لهذا الحدث، مع مراعاة فطامه وجدانياً تدريجياً بقدر الإمكان، مع مراعاة عدم الاطمئنان التام لسلوك الابن الأكبر مع أخيه الوليد، حتى وإن لم تصدر عنه مظاهر تدل على غيرته، لأنها موجودة بداخله، فهو يحتاج إلى زيادة احتواء الوالدين له مع الحذر .
وعندما يصل المولود بسلامة الله فلا يجوز إهمال الطفل الكبير وإعطاءالصغير عناية أكثر مما يلزمه، بل يعطَ المولود من العناية بقدر حاجته، ويصرف قدر كبير من الاهتمام للطفل الأكبر لامتصاص شحنة الغيرة التي تكون في أعلى معدلاتها في تلك الأوقات.
- احتواء الطفل عاطفيًا يساعده في تجاوز المشاعر المؤلمة التي تصاحب حالة الغيرة الأخوية، فكلما رأيته يسيء التصرف، تقرّب إليه، وأشعره بمدى حبك العميق، وحب اخوته له، حتى تهدأ نفسه، ويطيب خاطره.
وأخيراً.. عزيزي المربي
إنّ تعليم الأبناء قيم التنافس الشريف وإحلالها مكان الغيرة المذمومة، من شأنه أن يساعد الأبناء على تنمية كفاءاتهم، فالتنافس يحرّك في الإنسان عامة- فضلاً عن الطفل- مشاعر وطاقات مكنونة قد لا يعرفها من نفسه، أو يفطن لوجودها بين جنبيه إلا عندما يضع نفسه في منافسة قرينٍ له ومحاولة الفوز عليه.
وفي كل الأحوال لابد أن يجد الأبناء يد الوالدين الحانية تمتد إليهم وتساعدهم في التغلب على ما ينتابهم من مشاعر مؤلمة، أو خبرات سيئة، فابالحب والاحتواء نستطيع أن نزرع حب الخير في نفوسهم.
المراجع:
- مسئولية الأب المسلم في تربية الولد:عدنان حسن باحارث
- التربية الخاطئة وعواقبها:زهرة عاطفة زكريا.
- الاضطرابات النفسية للأطفال والمراهقين:د. سعد رياض.
- اللمسة الإنسانية: د.محمد بدري.